
متى تنفعل وتثور؟، نعم أسألك أنت.. ألا تنفعل إذا ما أخطأ في حقك آخر!، ألا تثور إذا ما تعرضت لظلم!، إذا تيقنت أن حقك ضائع!، وأنك محروم من أبسط متاع الدنيا!.. إذن لما لا تثور وأنت تتعرض لكل ذلك الآن.
هناك توافق عام في مصر علي أن هناك تدهوراً في الأداء العام للنظام انعكس في تدني الظروف التي يعيش فيها ٩٠% من المصريين بدءا من الخدمات الأساسية مثل توفير المياه النقية، ورغيف الخبز، والصرف الصحي، والبيئة النظيفة، وحتى التعليم، والرعاية الصحية، والعمل المناسب والسكن الملائم.. وبازدياد هذا التدهور من عام إلى آخر وتنامي الضغوط المادية والمعنوية علي ملايين المصريين، كان من المنطقي أن يأتي سؤال مثل: لماذا لا نثور نحن المصريين، ولا نتحرك احتجاجاً علي تلك الأوضاع الظالمة؟
قد ينظر البعض إلى حجم المعاناة التي تعيشها الأغلبية الساحقة من المصريين وإلى مدى تدهور الحالة الثقافية والاجتماعية والتعليمية والصحية وإلى مدى اتساع وشيوع الفكر الخرافي والشعوذة والبلطجة والعشوائية، وتغلغل الفساد والتسيب واللا مسئولية والعبثية، ينظر إلى كل هذا ويسأل هل ماتت الروح المصرية؟، هل فقدنا الإحساس بالحياة ولا أقول الاستمتاع بها؟
حقاً في السنوات الخمس الأخيرة تقريباً، تحركات واحتجاجات سواء تحركات مهنية ومطالب فئوية أو تحركات ساعية إلي «التغيير»، غير أن هذا كله لم يترجم أبداً في حركة احتجاجية عامة، في شكل هبّة جماهيرية شاملة مثلما حدث مثلاً في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ أو في شكل مظاهرات حاشدة «مثل مظاهرات فبراير ١٩٦٨».. أو في شكل عصيان مدني شامل.
ولا توجد إجابة واحدة تحدد بوضوح سبب عدم ثورة المصريون أو انعدام رد فعلهم الغاضب تجاه تلك الأوضاع المزرية، ولكن هناك من يري أن المصريين شعب مسالم، قلما يثور، وصبره علي الظلم والقهر هو بلا حدود!.
وهناك من يعتقد أن المصريين لا يثورون لأن أوضاعهم الاجتماعية -والاقتصادية، ومشكلات حياتهم اليومية تشغلهم، وتستنفد طاقاتهم إلي أقصي حد، بحيث لا تتبقي لديهم طاقة للتحرك والثورة!.
والتفسير الثالث يرى أن عزوف المصريين عن الاحتجاج والثورة راجع لما يتعرضون له من بطش السلطة وإرهابها، إلي حد يجعل أغلبهم يفكر ألف مرة قبل أن يتحرك ويثور.
تحدث أعلام ومفكرون وشعراء عن مصر، وعن شعب مصر بصفات عديدة لا شك أن أكثرها سلبية هي ما يتعلق بموقف المصريين من الحاكم أو السلطة السياسية، مثلا كتاب "لماذا لا يثور المصريون؟" من تأليف علاء الأسواني يتناول فيه الحياة السياسية والاجتماعية المصرية.والكتاب مجموعة من المقالات الصحفية الجريئة التي نشرها الكاتب حتى عام 2008 وفيها يتناول همومًا مصرية شغلتنا جميعًا في تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر.
يناقش الأسواني ويحلل أوضاع المصريين أمام حكّامهم، والزمن الصعب الذي يعيشونه ويستعرض أبرز الأفكار السياسية والأزمات الديمقراطية التي تهم كل من يفكر في مستقبل مصر.
وتحت عنوان " ديمقراطية أبو طربوش " يرى الأسواني أن العبقرية المصرية ربما تتلخص في كلمة واحدة: التأقلم .. إن قدرة المصري اللانهائية على التكيف مع أصعب الظروف والاستمرار في الحياة، هذه القدرة صفة حضارية رائعة يتميز بها شعبنا بجدارة.. فربما لا نكون أشجع الشعوب ولا أمهرها لكننا بالتأكيد أساتذة كبار في الدفاع الحياة ضد كل ما يهددها، فنحن نعرف تماما كيف ننتزع من الطغاة مساحة ما ولو صغيرة لنعيش ونستمتع ونبدع.
وعندما يجلس المصري آخر النهار وسط أولاده فإنه يعرف كيف يسخر من ظالميه ويكون مجرد استمراره في الحياة بمثابة هزيمة للذين قمعوه.. ولم يكن المصري ليستمر عبر آلاف السنين من الظلم لو لم يكن حكيما وصبورا وقد تعلم من تجربته الطويلة كيف يتعايش مع الطغيان بحيث لا يصيبه إلا أقل الضرر، إنه لا يتمرد على الطاغية ولا ينسحق أمامه بل هو يبحث دائما عن حل وسط يقيه الشرور ويمكنه من الاستمرار.
وقد يرى البعض أن المصريين شعب مذعن وخاضع وبالتالي غير ثوري.. ولكن ثورات المصريين على مر العصور تكذب هذا الزعم، فالمصريون يثورون في النهاية ولكن متى؟!.. عندما تتدهور أحوالهم إلى درجة لا رجاء منها وبعد أن تنفد كل محاولات التأقلم والتعايش مع الظلم والفقر، عندئذ ينتفض المصريون وتكون ثورتهم هنا إلى غضب الحليم الذي قد يتأخر لكنه عندما يندلع يكتسح كل شيء، والمدهش أن كل الثورات المصرية (على الأقل في العصر الحديث) قد اندلعت فجأة بعد فترات من السكون الظاهري التي قد يظن معها أن مقاومة الناس قد ماتت.
وقديما تحدث ابن خلدون عن الطاعة التي لا تدعو إلي التمرد أو الثورة، والدعة والصبر، والسلبية الشديدة، والخضوع والشعور بالتبعية والقهر والمحسوبية والنفاق، كما أشار حمدان أيضاً إلي ما ذكره المقريزي عن الدعة والجبن وسرعة الخوف والنميمة، والسعي لدي السلطان.
وذكر «أرنولد توينبي» في كتابه الشهير «دراسة للتاريخ» أن الفلاح المصري، علي مر التاريخ، كان ينظر إلي ممثلي السلطة وعلي رأسهم حاكم الدولة - نظرة إجلال بلغت في معظم الأحيان حد التأليه والتقديس ولذلك كان يذعن لأوامرهم بصورة شبه مطلقة، وأصبحت طاعة الحاكم وكل من يمثله واحدة من أبرز الصفات السلوكية للفلاح المصري.
أما جمال حمدان فقد حدد في كتابه الأشهر «شخصية مصر»، خمسة أركان للشخصية المصرية، وهي «التدين والمحافظة والاعتدال والواقعية والسلبية». ومع أن حمدان ـ مدفوعا بشعوره الوطني الجارف ـ مال إلي تقدير أن «الاعتدال» هو الخاصية المركزية بين تلك الخصائص، إلا أنه لم ينكر ما تنطوي عليه خصائص: «المحافظة، والواقعية، والسلبية» من آثار ونتائج سيئة علي علاقة المصريين بالسلطة السياسية، فالمحافظة تعني أن المصري تقليدي ومقلد، وغير ثوري وغير مجدد.
والواقعية تعني أن المصري مطيع بالضرورة أكثر مما هو متمرد بالطبع، وإذا ما عجز عن تغيير الواقع فإنه يخضع له، ويرضخ للأمر الواقع، إلا أنه حينئذ قد يسخر منه للتعويض أو التنفيس، وهنا يستشهد حمدان بقول الجبرتي: «والمصري يكره الحكام في كل صورة حتي أدناها»، وبإشارة العقاد إلي أن علاقة المصري بالحكومة علاقة «عداوة مريبة»، لكنه مع ذلك يقبل بها بل قد يتملقها، إلا أنه حتما يسخر منها، ويتندر بها سرا أو علنا، ويستنتج حمدان أن المصري العادي أو المتوسط يتجنب الصدام ويتحاشاه، لاسيما في المواقف العدائية، وبالتالي يؤثر السلامة عن المواجهة، والسلام عن الصراع
ويخلص حمدان ـ علي مضض ـ إلي أن سمة الاعتدال تجعل الشعب المصري تلقائيا شعبا غير ثوري بالطبع، ويري أن «تلك بالدقة هي نقطة الضعف الكبرى في كل كيان مصر، والنقطة السوداء للأسف في كل تاريخها، ومصدر الخطر علي مستقبلها
ثم يلفت النظر ـ بعد ذلك كله ـ ما يقوله جمال حمدان بالنص: «إن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية، بمعني ثورة علي نفسها أولا، وعلي نفسيتها ثانيا، أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها.. ثورة في الشخصية المصرية، وعلي الشخصية المصرية.. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر، وكيان مصر، ومستقبل مصر.
وفي اعتقادي أن الشخصية المصرية لن تتغير، مصر بلد قديم، بالغ القدم، يمتد تاريخه إلى سبعة آلاف سنة، واللحظة الراهنة ما هي سوى قطرة في محيط الوجود المصري الشاسع الضارب في الزمن، وطبيعة المسار التاريخي هي الصعود والهبوط، الرقاد والقيام، الغيبوبة والبعث، الركود والتجدد، هكذا كان تاريخ مصر، وهكذا سيظل فالحضارة المصرية القديمة تظل روحها حاضرة في شخصية كل مصري اليوم.
الحضارة المصرية فريدة بين حضارات العالم، فهي حضارة مزجت الشيء ونقيضه.. مزجت العلم بالسحر، والفن بالحياة، والرقص بالتعبد، والموسيقى بالترتيل في الفرح والحزن، في الميلاد والزفاف والموت وهي الحضارة الباهرة التي لفرط حبها وتعلقها بالحياة ابتكرت الأبدية والخلود بلا سابق إنذار أو دعوة أو رسول! فيالها من عبقرية مصرية متفردة. والمصري إلى اليوم لا شبيه له في مدى عشقه للحياة وللفرح وللضحك.
هذه الحضارة الاحتوائية - التي تحتوي كل شيء بما فيها المتناقضات، تواءم بينها في النهاية في أسلوب حياة - ولا أقول "نظام" حياة لأن الشخصية المصرية تنفر من النظام ولا تحبه ولا تزدهر إلا في غيابه - فإذا بالمحصلة هي حياة مصرية مليئة بصخب الوجود ودبيب العيش وجلجلة الكنائس وآذان المساجد وأغنيات المذياع في المقاهي وضجيج الحياة اليومية وصياح البشر وزغاريد الأفراح وولولات المآتم تتصاعد كلها في الشارع والوجدان المصري - يتحامل بعضها على بعض ويكمل بعضها بعضا لتقدم لنا في النهاية أسلوب حياة فريدا في شغفه بالعيش حتى الثمالة ومنتشيا بالتلاحم الإنساني الحميم نشوة لا مثيل لها بين بشر البلدان الأخرى.
ومثل هذه السمات الشخصية تجعلنا نؤكد أنه نادرا ما يثور المصري على أوضاعه الصعبة إلا حينما يتفاقم الوضع وتصبح الثورة هي ملاذه الأخير.. فتحت غطاء الضعف والتعب والاهتراء الخارجي تكمن قوة تاريخية هائلة يستنفرها المصري في الوقت المناسب لينتفض بها في الوقت المناسب.
ولو توقف الناظر إلى حال مصر قبل أكتوبر 1973 لما أستطاع أن يتخيل أن ذلك البلد الجريح المهزوم وذلك الجيش المرهق الذي هرب في الصحراء وهزم في ستة أيام منذ ست سنوات فقط يمكن أن ينتفض تلك الانتفاضة المذهلة في السادس من أكتوبر ليحقق إنجاز العبور العظيم.
الشعب المصري سوف يثور، ولن تنفع سياسة المهدئات الاستخبارية التي ينتهجها النظام معه، فمنذ الثمانينات لجأ نظام الحكم إلى حيلة بارعة تسمح للمصري أن يقلل من غضبه، وتعتمد هذه الحيلة على عنصرين رئيسيين، الأول مساحة من حرية الصراخ تسمح لكل مصري أن ينفث عن نفسه؛ حتى لا ينفجر؛ دون أن يمارس حق حرية التنفيذ أو التغيير. والعنصر الثاني من حيل النظام يطلق عليه سياسة "غض الطرف" فالحكومة سمحت بالرشاوى والعمولات وكافة أنواع الفساد، غضت الطرف عن كل ذلك الفساد حتى تترك لكل مواطن حرية حل مشاكله المادية بنفسه ولو عن طريق غير مشروع.
ولكن؛ رغم عبقرية النظام الحالي، فلا يجب أن ينخدع بصبر المصريين ، فتحت حطب الصبر والاحتمال والمسالمة يتوهج دائما جمر متقد لا يخمد هو جمر الروح المصرية التي لا تموت، أحذروا غضب المصريين فإنه آت لا ريب.