ليست البطانة الفاسدة هي تلك المجموعة التي تحيط برأس الدولة ؛ ملكا كان أم رئيسا أو أميرا؛ لكنها تلك المجموعة التي تحيط بكل رئيس لمجموعة حتى وإن كانت من المتسولين.
عن هؤلاء أتحدث لأنهم أصل البلاء وسبب الفساد في كل مكان، تحدث عنهم رب العزة في كتابه الكريم ومن ذلك قوله تعالى (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).
وقوله تعالى (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى) .
وفي تاريخ الأمم عِبر وعظات لمن ألقى السمع وهو شهيد، ففي قصص القرآن نتأمل قصة فرعون موسى ووزيره هامان الذي زيّن له كُفره.
وكذلك شواهد التاريخ في عصور الإسلام المختلفة ومنها مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد البطانة الفاسدة، ونهاية الخلافة العباسية على يد ابن العلقمي، ثم انهيار دولة الخلافة الإسلامية العثمانية بفعل قلّة من اليهود والنصارى والمنافقين الأتراك الذين تسنّموا المناصب العليا ومواقع القرار حتى فكّكوا الدولة وأضعفوها.
يُروى أنه كان أحد الحكام العرب في العصر الحاضر جالساً في مجلسه فدخل عليه رجل يبكي، فسأله الحاكم: لماذا تبكي؟
قال الرجل: جلالتك لم أجد احداً يأخذ الزكاة مني!
(في اشارة منه أنه لا وجود لأهل الزكاة في بلدك لكون خيرات الحاكم قد عمت البلاد بأكمله)
فتبسم الحاكم لأنه استطاع أن يرضي شعبه!
وقد كانت هذه التمثيلية تحت إخراج البطانة الفاسدة التي أرادت أن تصور لهذا الحاكم أن الشعب بخير فأنخدع بهذه التمثيلية وشعبه كان فعلاً يتضور جوعاً!
هذه القصة المؤلمة تصور لنا كيفية تعامل الباطنة الفاسدة مع الحاكم فهي لا تحجب الناس عنه فقط بل تصور له أمورا لا صحة لها.
قصة أخرى يجسدها واحد من مقاطع الفيديو الموجودة على You Tube لأحد الحكام وهو يؤدي صلاة الضحى والشعب حوله، يظهر في الفيديو وهو يدخل المسجد ليجده مليء بالمصلين، الذين تم تفتيشهم آلاف المرات قبل دخول المسجد وتم أخذ العهود والمواثيق منهم بأن من تعرض للحاكم بشيء أو سأله أو نطق بكلمة فإنه سيسجن مدى الحياة مع التعذيب المستمر، فيدخل الحاكم ويصلي ويخرج وهو سعيد ويرى الجماهير السعيدة التي تهتف له ظاهراً وفي الباطن تتمنى أن تفتك به.
هذه البطانة الفاسدة التي تلتف حول الحكام غالبا ما يضعوهم في معزل عن شعوبهم، وعندما يأتي الناس ليتكلموا مع الحاكم تجد البطانة تضع ألف حصن وألف جندي وألف سؤال قبل دخول الناس إليه وربما منعوا الناس من الدخول وقالوا الحاكم لا يريد مقابلة أحد وهم يكذبون في ذلك.
تروي كتب التاريخ أن رجلا أراد مقابلة السلطان فمنعته البطانة من المقابلة فجلس يراقب جدول أعمال السلطان فعرف أنه يخرج في الضحى خارج قصره فقام الرجل وأذن للصلاة فلما سمعه الحاكم سألهم عن الوقت فقالوا له: أنه وقت الضحى فقال لهم: لماذا يؤذن هذا الرجل قالوا له: لعله مجنون ! فتركه، فلما جاء الغد قام الرجل ورفع الآذان مرة أخرى وكرر الأمر عدة أيام حتى أمر الحاكم جنوده بالقبض على هذا الرجل فأتو به بين يدي السلطان فسأله السلطان عن سبب رفع الآذان في هذا الوقت فأخبره الرجل أنه يحاول أن يقابله فلم يستطع إلا بهذه الحيلة فقضى له حاجته وخلى سبيله.
وهكذا نرى أن الدخول إلى بعض الحكام يحتاج إلى حيلة حتى يصل إليه الناس وإلا فلن يستطيع أحد الدخول عليه لأن بطانة السوء تحيط به وتفسده ولا تخبره بمعاناة الشعب أو مشاكلهم أو همومهم بل تخبره دائماً بأنهم بخير وعافية.
والبطانة الفاسدة لا تفعل ذلك فقط، بل تقوم بتشويه صورة الحاكم أمام شعبه فالحاكم يظن أن شعبه بخير ويحبه والشعب يظن أن الحاكم فاسد ويكرهونه ولكن يخافون من سطوة السجن والعذاب فيبقون على حالهم عقود من الزمن يخرج فيها أجيال تربت على أن انكار المنكر جريمة كبرى يُعاقب عليها القانون ومصيرها السجن والتعذيب المستمر حتى الموت!.
تلك البطانة الفاسدة هُم "شلّة" الحُواة والسحرة والانتهازيون المتسلّقون الذين يجتمعون حول الحاكم يتزلفون ويداهنون حتى يُلقى في روعه أنه الحاكم العادل المحبوب الذي بسط الخير والإنسانية في أرجاء البلاد حتى هتف شعبه حبا وتمجيدا له فخادعوه وضلّلوه بقلب الحقائق رأساً على عقب، وتحت سلطانه نشروا القمع ووأدوا الحق وأساءوا للخلق لأجل تحصيل منافعهم الدنيئة وبما يخدم مصالحهم الشخصية وإن تعطلت أو تضررت بذلك مصالح الراعي والرعية.
إن البطانة الغاشّة أخطر على الحاكم منها على المحكومين , فهي تحرّضه لبيع دينه بدنياه وتؤدي به إلى التفريط بأمانته التي تولاها في عنقه بل قد تعجّل بزوال ملكه حين تتأزم أوضاع البلد ويُشحن الناس ضد سياساته مما قد يدفعهم للانفجار عاجلا أو آجلا.
في هذه الأيام المباركة، وفي هذا الشهر الكريم.. فلنتذكر كلّما رفعنا الأكفّ مبتهلين متذلّلين لله أن نخصص جزءا من دعائنا لتلك البطانة الفاسدة وليته يكون بأكثر مما نخصّ به أنفسنا من الدعاء، فبدونهم ستنصلح الأحوال بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق