على
مدار ثلاثين عاما، عمر تجربتي الصحفية، لم أكره في حياتي إلا هذا "المصدر
المجهول" الذي يردده الصحفيون كثيرا مدعين أن "المصدر" رفض ذكر
أسمه!.
وحينما
كنت مسئولا عن تحرير جريدة الشرق الأوسط في مصر، كنت دائم الشجار مع الصحفيين
الذين يتعاونون مع الجريدة لكثرة استخدامهم هذا "النعت" استخداما غير
دقيق.
أفهم
أن ينسب الصحفي ما يكتبه إلى مصدر "مجهول" إذا كان فيه معلومات يخشى أن
تصيب المصدر بأذى وبالتالي فهو يخفي المصدر معتمدا على صدق المعلومة، لكن هذا
نادرا ما يحدث، وغالبا ما تأتي الفقرات المنسوبة إلى المصدر "المجهول"
مجرد عبارات انشائية أو سرد أرشيفي لا جديد فيه ولا خطورة منه.
وحتى
لا يراجع أحد أرشيفي الصحفي ويلتقط منه ما يشير إلى تجهيل المصدر في بعض ما كتبت،
أسارع إلى التأكيد بأنني بالفعل اضطررت إلى استخدامه عدة مرات ولكن مع تعديل في
الصفة وإبقاء على اخفاء "المصدر".
أذكر
أنه في بعض ما كتبت، كانت لدي معلومات لا يمكن أن يكون مصدرها إلا وزارة الخارجية،
لكن لا أحد في الوزارة كان يريد أن يتحمل ردود فعل نشرها، لذلك اتفقت مع السفير
"جهاد ماضي" المتحدث الرسمي باسم الوزارة في ذلك الوقت على أن أنسبها
إلى مصدر "مطلع".. وهكذا ظللت استخدم هذا المصدر "المطلع" في
معظم ما نشرت من معلومات لا يمكن أن "يُسربها" إلا مصدر في وزارة
الخارجية، وبالتالي كان المصدر معلوما وواضحا لكل من يقرأ.
ما
الذي ذكرني بحكاية المصدر "المجهول"؟
تذكرته
وأنا أتابع عددا من المواقع المصرية على الشبكة العنكبوتية، يعجبني عنوان الموضوع
فأضغط عليه لقراءته، لكن رغم استمراري حتى آخر سطر فيه لا أجدني قد حصلت على أي
معلومة جديدة.
على
سبيل المثال، نشر أحد المواقع المصرية الشهيرة هذه العبارة في سياق تقرير كتبه
الزميل عن أحداث سيناء الأخيرة، تقول الفقرة (أكد جهادي سابق يقيم بالشيخ زويد -رفض ذكر اسمه- أن
الجماعات التكفيرية بسيناء بدأت تغيير استراتيجيتها الخاصة بالتفجيرات؛ فلجأت
للتقنيات الحديثة في زرع العبوات الناسفة وتفجيرها عن بُعد، بَعد أن كانت تلك
الجماعات تستخدم "الانتحاريين" لاستهداف قوات الجيش والشرطة وهي الطريقة
التي أدخلها لسيناء تنظيم "التوحيد والجهاد" خلال تفجيرات طابا وشرم
الشيخ عامي 2004 و2005 وهو نفس النهج الذي سار عليه تنظيم "أنصار بيت
المقدس" ولاسيما بعد اندماج الجماعتين عقب ثورة 25 يناير.)
والعبارة ليس فيها أي جديد،
بل هي معلومات أرشيفية يتكرر نشرها مع كل حادث في سيناء، ولا خطورة على من يكررها،
لكن الصحفي يريد أن يؤكد لقارئ الموضوع أنه لا يكتب كلاما مرسلا ولا ينشر معلومات
أرشيفية مكررة لذلك لجأ إلى المصدر "المجهول" الذي يرفض ذكر أسمه مع أنه
لا وجود لهذا المصدر كما أنه لا جديد فيما يقوله من معلومات.
وإذا كان "تجهيل"
المصدر أمر مقبول في صحافة العقود الماضية، فهو أمر لا يمكن قبوله في عصر السموات
المفتوحة وازدياد مساحة الحرية التي تسمح ليس بذكر المصدر فقط بل وعدم الخوف من
نشر أي معلومة طالما كانت صحيحة، فالقارئ اليوم لن يرضى بأن يشتري الوهم، وقارئ
الإنترنت بالذات لن يقرأ إلا ما يعتقد ويؤمن أن فيه جديدا وليس مجرد معلومات
أرشيفية يستطيع أن يستدعيها بمحركات البحث في أي وقت يشاء.
ولكي أكون منصفا، وحتى لا
يتهمني أحد بالتجني على الإعلام المصري، أؤكد أن حكاية المصدر "المجهول"
هذه ليست من سمات الصحافة المصرية فقط، بل هي رافد مشترك يتكرر كثيرا في الصحف
العربية عموما، وتلك من السمات السلبية التي أتمنى أن يقضي عليها الإعلام الجديد
خاصة وأنه لا شيء غامض أو مجهول مع حرية تداول المعلومة وكثرة المواقع وتنوعها
وارتفاع هامش الحرية السياسية نسبيا في
بعض الدول العربية.