حينما ظهرت القناة الإخبارية الأمريكية CNNفي التسعينيات من القرن العشرين واستطاعت أن تصل للخبر أينما حدث وتنشره على العالم كله، كان ذلك بمثابة ثورة جديدة في عالم الاتصالات والإعلام قلبت المفاهيم وقربت كل بعيد. أذكر كلاما قرأته في ذلك الوقت للأمين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي لخص ما حدث وانعكاساته على السياسة العالمية بقوله إن أعضاء مجلس الأمن الدولي الخمسة عشر أصبحوا الآن ستة عشر. وعندما سأله الضيوف المندهشون عن هوية العضو الإضافي الجديد، رد الأمين العام بنبرة جادة لا تخلو من الهذر: إنه شبكة CNN التي كانت تتفرد في أوائل التسعينيات بالتربع وحدها على عرش المحطات الإخبارية غير المعروفة بعد في عالمنا العربي آنذاك.
ومثلما كانت CNN علامة فارقة في مسار الإعلام الدولي، اعتقد أن موقع ويكيلكس سوف يدشن لنقطة تحول جديدة في مسار الإعلام الجديد وخاصة الإعلام الإليكتروني، وسيكون أكثر دعما لنظرية "المواطن الصحفي" التي اعتمدها الإعلام الغربي منذ سنوات ثم تبناها موقع تدوينات منتصف عام 2010.
موقع ويكيليكس (Wikileaks) ، ومعناها "تسريبات الويكي" يعتبر -كما يقول القائمون عليه- موقعا للخدمة العامة مخصصا لحماية الأشخاص الذي يكشفون الفضائح والأسرار التي تنال من المؤسسات أو الحكومات الفاسدة، وتكشف كل الانتهاكات التي تمس حقوق الإنسان أينما وكيفما كانت.
الاسم جاء من دمج كلمة "ويكي" والتي تعني الباص المتنقل مثل المكوك من وإلى مكان معين، وكلمة "ليكس" وتعني بالإنجليزية "التسريبات".
تم تأسيس الموقع في يوليو 2007 وبدأ منذ ذلك الحين بالعمل على نشر المعلومات، وخوض الصراعات والمعارك القضائية والسياسية من أجل حماية المبادئ التي قام عليها، وأولها "صدقية وشفافية المعلومات والوثائق التاريخية وحق الناس في خلق تاريخ جديد".
وكانت بداية انطلاق الموقع من خلال حوار بين مجموعة من الناشطين على الإنترنت من أنحاء متفرقة من العالم مدفوعين بحرصهم على احترام وحماية حقوق الإنسان ومعاناته، بدءا من قلة توفر الغذاء والرعاية الصحية والتعليم والقضايا الأساسية الأخرى.
ومن هذا المنطلق، رأى القائمون علي الموقع أن أفضل طريقة لوقف هذه الانتهاكات هو كشفها وتسليط الضوء عليها.
ويعتمد الموقع في أغلبية مصادره على أشخاص يوفرون له المعلومات اللازمة من خلال الوثائق التي يكشفونها، ومن أجل حماية مصادر المعلومات يتبع موقع ويكيليكس إجراءات معينة منها وسائل متطورة في التشفير تمنع أي طرف من الحصول على معلومات تكشف المصدر الذي وفر تلك التسريبات.
كما يحظى ويكيليكس بشبكة من المحامين وناشطين آخرين للدفاع عن المواد المنشورة ومصادرها التي لا يمكن -متى نشرت على صفحة الموقع- مراقبتها أو منعها.
هذا الاعتماد المتزايد على شبكة الإنترنت سيكون نقطة التحول الكبرى في دنيا المواقع والمدونات الإلكترونية، وهذا الموقع الإخباري ذي الثلاث سنوات من العمر، منح مجتمع الإعلاميين العاملين على الشبكة الإلكترونية قوة دفع لا يمكن احتواؤها بعد اليوم، ودشن بنشر مثل هذه الوثائق السرية التي لم يستطع البنتاجون إنكارها، زمنا جديدا في توازنات علاقة القوة المتغيرة بين السلطة الرابعة التي ظلت حتى ظهور الـ (CNN) مجرد حبر على ورق، وبين سائر السلطات الأخرى النافذة في عصر العولمة والفضاءات المفتوحة.
والجديد في عالم المواقع الإليكترونية يتمثل في الإضافة النوعية التي أنتجها موقع ويكيلكس الإخباري، بعد نشره لنحو خمسة وسبعين ألف وثيقة تكشف الكثير من أسرار حرب أفغانستان، من دون أن تتجرأ الإدارة الأميركية على القيام بحجب هذا الموقع أو منعه على الشبكة العنكبوتية.
نحن اليوم أمام واقعة إعلامية ستكون علامة بارزة في الإعلام الجديد حيث ستكرس لمفهوم سلطة الإنترنت كوسيلة إعلامية تفاعلية عابرة للحدود والقيود والسلطات الرسمية حتى لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية، نحن أمام سلطة تزداد مع مرور الوقت تطورا ونفوذا وسيطرة على نحو يتجاوز بأشواط طويلة سطوة وسائل الإعلام التقليدية، ويتعدى حتى قدرات المحطات الفضائية بوصولها إلى مئات الملايين في لحظات محدودة ومن دون أن يتمكن أحد على منعها مثلما يفعل الرقيب مع وسائل الإعلام التقليدية.
وكما كانت الـ (CNN) بداية فارقة لعصر من الإعلام الفضائي الجديد، يشكل موقع ويكيلكس، بداية أخرى أكثر أهمية من سابقتها في مسار هذا التطور المفتوح على آفاق لا نهائية في عصر الإعلام الإلكتروني وزمن الصورة الرقمية، الأمر الذي يدعو الحكومات في العالم العربي على وجه الخصوص إلى استيعاب مغزى هذا التطور بروح إيجابية، عوضا عن محاولات القمع والمنع والحجب لكبح هذا التطور الذي لا راد له.
قصة ويكيلكس لم تنتهِ، لكن العالم بأسره لن ينسى ما يمكن أن يفعله الإعلام الجديد، وإعلامنا العربي بحاجة إلى صحوة حتى لا يفوته القطار مرة أخرى فهذه الوسائل والأدوات الحرة ليست حكرا على الصحفي الغربي والسماء المفتوحة ملك للجميع،ونتمنى أن يشكل موقع تدوينات بداية انطلاقة صحيحة وجريئة للإعلام العربي الحر.
السبت، 4 ديسمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق