منذ وقعت إيران الاتفاق النووي مع مجموعة
5+1، والجدل لا ينتهي حول تأثير هذا الاتفاق على الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط وخصوصا
الخليج العربي، فهل القلق السعودي والتوتر الخليجي مبالغ فيه أم أن لهؤلاء عُذرهم تجاه
تلك الهواجس وهل صحيح ذلك التحذير الذي أطلقه البعض من أن سياسات الجمهورية
الإسلامية في إيران ستدفع إلى إندلاع حرب سُنية شيعية؟
الحقيقة أن لهؤلاء القلقين عذرهم فكل الشواهد
تؤيد شكوكهم، لقد زرت إيران مرتان، عام 2000 ثم في عام 2004، وخلالهما التقيت بعدد
من الملالي آيات الله وكثير من الرموز الإيرانية والمفكرين، كما تجولت في أروقه
جامعة طهران متحدثا مع الكثير من شبابها المؤيد للنظام والثائر الرافض له.
وعند الحديث مع أي إيراني، سواء على المستوى
الرسمي أو الشعبي، فلن تجد إلا إحساسا بالكبرياء يتبعه رغبة في أن يأتي العرب إلى
إيران لا أن تذهب الجمهورية الإسلامية إلى جيرانها من العرب المسلمين، صحيح أن
عاطفة الإسلام تشعر بها في نظرتهم للعرب، لكن القومية الإيرانية والروح
"الفارسية" تنتصر عليها غالبا لتدفع بالعلاقات الإيرانية العربية إلى
المربع الأول الذي يعني الجمود المؤقت فلا هي علاقات حارة جادة وليست كذلك علاقات
عداء ظاهر.
آية الله مكارم شيرازي، رفيق درب آية الله
الخوميني، التقيته في مدينة قم عام 2000 وقت أن كانت الساحة الإيرانية تلين في
أيدي ما أسماهم الإعلام بالإصلاحيين.. وسألته خلال المقابلة إن كان ما يحدث في
إيران يعني أن تغييرا طرأ على فكرة تصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار، وهو ما
كان ينادي به الخوميني؟. قال شيرازي إنه لا فرق بين إصلاحيين ومحافظين عند الخديث
عن الثورة فاختلاف العقيدة منطق غير موجود وما يحدث هو مجرد اختلاف في طرق تطبيق
نظريات وأهداف هي من أسس وثوابت الثورة الإسلامية، وتصدير الثورة لا شك سيبقى أهم
هذه الثوابت.
وهذا ما أكده أيضا الشيخ محمد سعيد نعماني،
من كبار رجال التيار المحافظ، حين أكد في حواره معي أنه لا تراجع عن ثوابت الثورة
الإسلامية وأن الكل؛ الإصلاحيون والمحافظون؛ من أبناء الإمام الخوميني وأبناء هذا
النظام الذي لن تتغير أهدافه حتى وإن تبدلت ثيابه.
أما في حديثي مع رجائي خوراساني مستشار وزير
الخارجية الإيراني فقد تجادلنا كثيرا حول تسميه الخليج العربي الذي أصر على تسميته
بالفارسي، كما رفض كل محاولاتي اقتحام قضية الجزر الثلاث المتنازع عليها مع دولة
الإمارات متمسكا بما أسماه حقوق فارسية في هذه الجزر ولم يعجبه كلامي عن
"تنازلات" تقدمها إيران لحل المشكلة.
د.صباح زنجنة كبير مستشاري وزير الخارجية
الإيراني ربما يكون الوحيد الذي قال صراحة أنه لا تصدير للثورة الإسلامية
وأفكارها، وقال في حواره معي إنه مع تغير الظروف الإقليمية والعالمية كان لا بد من
طرح جديد للخطاب الإيراني بحيث يبين صدق النية ويوضح القراءة الإيرانية لمتغيرات
الأحداث ودور إيران في المنطقة. وذكر أن هذا الخطاب يركز على ضرورة احترام الآخرين
وضرورة التعاون في المجال الإقليمي والدولي.
التقيت في طهران أيضا بالدكتور أبو الفضل
صالحي نياه رئيس إدارة الدول العربية برابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، والتي
تعني بدعم روابط التعاون بين الدول العربية والإسلامية وإيران، وفي الحوار مع
السيد أبو الفضل، الذي عمل مستشارا ثقافيا لإيران بالعديد من الدول العربية، كان
واضحا أن ثمة مشاكل في العلاقات الإيرانية العربية وأن ذلك ربما يرجع إلى ما أسماه
"الحاجز النفسي" الذي يحد من علاقات أقوى بين الطرفين، وإن كنت أضيف إلى
ذلك ما أسميته بالروح الفارسية التي صارت تطل علينا من كل زاوية وخصوصا بين جيل
الشباب من الإيرانيين الذي يشكل أكثر من 60% من تعداد الجمهورية الإسلامية.
آية الله العظمى حسين علي منتظري، فقيه
الثورة الإسلامية، حين سألته عن العنف الذي لم يكن فقط ممارسة داخلية، لكنه أيضا
كان شعارا للثورة التي أخذ قادتها على عاتقهم مسئولية تصدير الثورة إلى خارج إيران
حتى ولو كان ذلك عن طريق العنف؟ قال (إن هؤلاء الذين تحدثوا عن تصدير الثورة
الإيرانية لو كانوا يعملون بإخلاص وكان عملهم مميزا لأصبح ذلك عاملا على انتشارها
وتصديرها دون حاجة لاستخدام العنف الذي نرفض اللجوء إليه حتى ولو كان بهدف نشر
أفكارنا ومعتقداتنا).
ومن بين من قابلتهم آية الله محمد علي تسخيري
مستشار مرشد الثورة الولي الفقيه آية الله خامنئ؛ والذي يشغل أيضا منصب الأمين
العام لمجمع التقريب بين المذاهب، ومن قبل كان مسئولا عن الرابطة الثقافية
الإسلامية، وهي كلها مناصب تعني بالعلاقات الإيرانية مع دول العالمين الإسلامي
والعربي ومسئولة عن تنمية الفكر الشيعي و"تعديل" الصورة النمطية عن
المذهب والمنتمين إليه لدى أهل السُنة.
سألته، هل تعتقد أنه من الممكن تصعيد هذا
العراك؛ الذي يبدو أحيانا صغيرا بين السُنة والشيعة؛ ليصير حربا كبرى، فلنأخذ
العراق مثالا لما يخطط له الاستعمار؟ فقال (لا يمكن مطلقا أن يحدث ذلك لأن الشعب
المسلم واع بما يحاك ضده سواء كان ذلك في العراق أو في أي بقعة إسلامية، ولأن
العلماء من الطرفين واعون، ولأن الكوادر الإسلامية المثقفة كثيرة جدا، وفي العراق
الذي نأخذه كمثال الآن، ورغم أني أؤمن إيمانا مطلقا بنظرية المؤامرة العالمية لكني
على يقين كامل بعدم وصولها إلى هدفها، لكنها لن تنتهي حتى لو رحل الاحتلال، ولو
بقى فإنه سوف يغرق أكثر في أوحال العراق وسوف يجد نفسه عاجلا أو آجلا مضطرا للرحيل
وترك الشعب العراقي يصنع مستقبله بنفسه، إذن هذا الوعي بحقيقة المخاطر هو العامل
الحاسم، بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، لصد المؤامرة الاستعمارية وعدم إتاحة
الفرصة للمتآمرين على الوصول لهدفهم وإشعال الحرب بين أهل السُنة وأهل الشيعة
وتفتيت العالم الإسلامي).
وتحدثت معه عما لاحظت من ارتفاع حدة القومية
الإيرانية وسط جيل الشباب، فقال (إن هذا التعصب القومي في إيران يأتي ردا على
تحركات قومية تعصبية في بعض المجتمعات العربية، عندما يسمع الإيراني أن هناك عالما
عربيا يروج كل يوم شعارات دينية لها صبغة سياسية مثل القادسية وحرب إيران والمجوس
وغير ذلك، العامل الثاني عدم وجود علاقات مباشرة مع العالم العربي والشباب
الإيراني لديه معرفه بالعالم الغربي أكثر من معرفته بالعالم العربي، وهو الشيء
نفسه الذي يحدث في العالم العربي، بالإضافة إلى وجود أصوات في الجانبين تسعى
لتأصيل هذا التعصب، والمسألة الأخرى هي اللغة فرغم أنه يحيط بإيران العديد من
الدول العربية التي تشترك معها في مسارات اقتصادية متنوعة وكذلك سياسية وتربطه
معها الكثير من العادات والتقاليد المشتركة إلا أن افتقاد عامل اللغة المشتركة
يعيق عملية انتقال المعارف وغيرها مما ينمي النظرة المتعصبة، وهذا بلا شك موجود
أيضا في الدول العربية حيث أن أغلب المعلومات المقدمة عن الطرفين للآخر تكون بلغة
ثالثة).
مصيب نعيمي رئيس تحرير جريدة الوفاق سألته
بشكل مباشر الشارع الإيراني يبدو أنه استعاد النزعة القومية حيث التقيت بالكثير من
شباب الجامعة الذين رددوا عدم جدوى التعاون مع العرب! بل لقد وجدت كثير من هؤلاء
الشباب يسعى لاستعادة سياسات زمن الشاه وشعاراته الفارسية، من يغذي هذه الأفكار؟ فكانت إجابته، اعتقد أن هذا قد ينسحب فقط على
جزء من الطلاب الذين ما زالوا في مرحلة دراسة الواقع السياسي ولم يصلوا إلى مرحلة
النضج الفكري، والشباب في هذه المرحلة العمرية يميل إلى انتقاد كل ما حوله ويرفض
أية انتماءات جاهزة فهو يريد أن يشكل عالما خاصا به ويعتقد أن باستطاعته تكوين
معتقدات جديدة خلافا لما هو سائد في المجتمع، لكني لا أوافق رؤيتك في أنه يسعى
لإعادة قيم ومبادئ ما قبل الثورة.. أما بالنسبة للعلاقات مع العرب فلا شك أن هناك
ضغوطا إعلامية تسعى لتعميق الفجوة بين إيران والعالم العربي ومعظم هذه الضغوط تكون
إنتاجا غربيا هدفه الأساسي منع التقاء العرب مع إيران، وبالتأكيد فإن هذا يكون له
تأثيره على الشباب الذين لم يتشكل إدراكهم السياسي.
وحين قلت له، لكني لمست كراهية شديدة للعرب، وليس مجرد فكر
أو تكوين سياسي؟ جاءت إجابته: ربما ما لمسته إحساسا بالذات الإيرانية
وهذا لا يعني انتقاصا من قدر الآخرين، فكل القوميات ستكون لدى أصحابها من أفضل
القوميات بما في ذلك القومية العربية أو الصينية أو حتى الهندوسية وغير ذلك، لكن
هذا لا يعتبر كرها في الغير وإنما تمييزا للذات.
وسألته، هل توجد أقلام إعلامية تغذي هذا الاتجاه؟ فقال: بعض الأقلام اليتيمة ومعظم هؤلاء الكتاب
ينتمون إلى جيل ما قبل الثورة الإسلامية ويسعون إلى إعادة بعض أفكار العهد الماضي
والتي من بينها أن العالم الغربي هو الأفيد لإيران حيث التكنولوجيا المتقدمة
والمعرفة غير المحدودة، وأتصور أن الذين يروجون لهذه الأفكار في العالم العربي
أكثر من إيران.
قلت له، لكن الخطورة في إيران أنها لم تعد قاصرة على
أروقة المفكرين بل انتقلت إلى أوساط الشباب والطلاب في الجامعات لتشكل نهجا
اجتماعيا سيكون له مردودة السلبي في العلاقات الشعبية بين الدول؟، فقال: لكن ذلك لا يشكل رافدا فكريا ينمو مع
معتقداتهم السياسية بل يأتي انطلاقا من قاعدة المعرضة لكل شيء من أجل استكشاف عالم
جديد وخلق فضاءات خاصة بهم، وإحساس الشباب بالذات الإيرانية ليس نوعا من السامية
بل هو مجرد تنامي شعور الولاء الوطني والرغبة في أن يحصلوا على وضعهم المناسب بين
الدول والقوميات الأخرى، وربما يكون ذلك واحد من تداعيات العلاقات مع المجتمع
الخارجي بعد الثورة الإسلامية خصوصا وأنها شهدت كثير من التوتر وسوء الفهم.