
28 نوفمبر 2010، موعد المصريين مع انتخابات مجلس الشعب (البرلمان) والتي تعلق عليها حبل الأمل لدى المصريين وتوقع بعضهم أن تكون زلزالا يهز أركان المعبد السياسي ويفجر التابوت الذي ألفه المصريون لعقود مضت، وتوقع آخرين أن يكون بوابة العبور نحو ديمقراطية حقيقية تمهد للانتخابات الرئاسية 2011.
وكنت واحدا من هؤلاء المصريين الذين لم يتفاءلوا لدرجة الاعتقاد بزلزلة أركان المعبد، كما أني لم أتصور أن تكون سنة أولى ديمقراطية، لكني تمنيت أن تصبح بمثابة فترة تمهيدية تسبق مرحلة الديمقراطية؛ أي كأننا في مرحلة Baby class التي تسبق عادة الفترة الدراسية الطبيعية.
ولإيماني العميق بـ (حتى تغيروا ما بأنفسكم)، ولاقتناعي بأهمية أن يبدأ كل منا بالعمل المطلوب منه ويرفض تماما المقولة المنتشرة بين المصريين (يا عم هو أنا اللي حأغير الكون) ولضرورة إلغاء شعار اللا مبالاة، لذلك قررت أن أشارك في اختيار من سيمثلني تحت قبة البرلمان، قررت أن أصبح مواطن انتخابي (حر)!.
ولأنني من هؤلاء الذين يتعاملون بحرص شديد مع الدوائر الحكومية، بل ويتحاشون التعامل مع أي منها إلا لضرورة، توجهت إلى قسم الشرطة أقدم قدما وأؤخر أخرى لعمل الإجراءات اللازمة نحو قيد أسمي في سجل الانتخابات؛ فلا يوجد بين المصريين من يذهب طواعية إلى قسم الشرطة؛ ذهبت إليهم بالطبع في المواعيد المحددة والمعلن عنها لفتح باب القيد في الجداول الانتخابية.. كان ذلك في شهر يناير 2010.
وبمنتهى اللطف قابلني المسئول وملأت الاستمارة المعدة لذلك، ثم طلب مني العودة لاستلام البطاقة الانتخابية في شهر مارس 2010، وفي الموعد المحدد ذهبت فأرجأ حصولي على البطاقة إلى الشهر التالي (أبريل)، وفي شهر مايو كان المسئول الموجود بمكتب الشرطة (الإداري) امرأة تعاملت معي بمنتهى (الخشونة) قائلة (مفيش بطاقات خلصت، مستعجلين على أيه ....) ولسان حالها وتعبيرات الوجه تقول (روحوا هم يشيلكم ولا يجيبكم تاني).. وقررت بالفعل ألا أذهب مرة أخرى، لكن ضميري لم يتركني وعقلي الباطني يكرر (تغير ولا تيأس) لذلك ذهبت في شهر يوليو ثم أغسطس وتسلمتها أخيرا في شهر سبتمبر 2010 !!!.
المهم جاء اليوم الموعود، وقررت متحمسا خوض تجربة المشاركة الانتخابية لأول مرة في حياتي (32 سنة عمري المهني)، صحوت مبكرا وتوجهت إلى أقرب لجنة انتخابية لسكني في مدينة نصر، خرجت من منزلي الساعة العاشرة مستحضرا بعض المعتقدات المصرية القديمة (البركة في البكور) و(قبل الزحمة) وأخيرا (علشان أخلص بدري).
وأمام اللجنة وجدت زحاما شديدا لدرجة أنني فكرت في التراجع والعودة مساء، لكني وجدت من يهمس في أذني (عاوز تدخل يا أستاذ؟)، نعم.. (تفضل) وفتح لي فرجه بين القضبان الحديدية المحاط بها اللجنة الانتخابية.. ها ها ، بدأت بمخالفة كعادة المصريين أو على الأقل مخالفة لخط السير المقرر من قبل الأمن، وبمجرد أن مررت لم ينس الرجل أن يدس في يدي بطاقة دعاية انتخابية للمرشحة التي يتبعها (لا تنسى .... من ... لقد توسمت فيك خيرا)!!.
شققت طريقي وسط الزحام، كنت أعتقد أنه زحام الناخبين، لكن بعد خطوات معدودة اكتشفت أنه زحام مندوبي المرشحين!، سألت؛ مبرزا بطاقتي الانتخابية (أين اللجنة؟) سألوني (ما الذي جاء بك هنا، هل انتخبت من قبل؟) وكانت إجابتي بالنفي فهذه المرة الأولى، فتركني رجل الأمن أبحث بنفسي عن اللجنة.
وجدت مجموعة من الموظفين جالسين وفي أيديهم بعض الأوراق، سألتهم أين اللجنة؟، نظر أحدهم إلى بطاقتي الانتخابية وصرخ سائلا من بجواره (فين حرف اللام، مين معاه حرف اللام؟) توقعت أنه يبحث عن أسمي فقلت (أنا أسمي محمود) فصرخ مجددا (حرف الميم يا جماعة؟ حرف الميم) ولما لم يرد أحد توقعت أن الحرف قد ضاع وبدأت أفكر ماذا سأفعل وكيف أمارس حقي الدستوري، هل أعود إلى المنزل مرة أخرى! وصرخ ضميري (تغير، ألم نتفق على ضرورة التغيير).
عدت إلى الواقع مجددا حينما عاود الموظف صراخه (خلاص يا جماعة لقيت حرف الميم، معايا وأنا معرفش)!!، كنت أظن ونحن قد اقتربنا من نهاية 2010 أن كل الأسماء ستكون مسجلة على جهاز كمبيوتر، وأنه بضغطة زر أحدد لجنتي ومكانها، وكنت أحلم أنه ربما يأتي الزمن الذي يستطيع فيه الناخب أن يدلي بصوته وهو في منزله أو عمله بمجرد دخوله لموقع اللجنة الانتخابية على الإنترنت واختيار مرشحه، كل ذلك ممكن طالما أن المواطن يملك كلمة المرور التي تتيح له ذلك.
المهم قال لي الرجل (لجنة 4 يا أستاذ، فوق.. طريق السلامة)، شكرته ثم وأنا أتسلم منه البطاقة فوجئت به يقول بلغة اليقين (موش الراجل بتاعك هو الراجل بتاعنا؟) ووجدت بطاقة دعاية انتخابية تتدلى على صدره لمرشح الحزب الوطني!، ابتسمت وشكرته، نعم فلولا أنه أفاق سريعا لضاع حرف الميم وما عرفت لجنتي الانتخابية!.
بحثت عن اللجنة في دهاليز المقر الانتخابي، ووجدتها.. شبة خالية باستثنائي وشخص سبقني وابنه ووقف يطلب استمارة اختيار نواب مجلس الشعب، وفي مدخل اللجنة جلس بعض الأشخاص أظنهم مندوبي المرشحين، مرة ثانية كنت أتوقع أن أقف بعيدا عن مسئولي اللجنة منتظرا أن يفرغ من أمامي، لكني لم أجد من يمنعني من الذهاب إليهم والبحث عن أسمي والتوقيع ثم الذهاب إلى رئيس اللجنة لسحب الاستمارات المعدة للانتخاب.
المفروض أن يعطيني رئيس اللجنة ورقتين دفعة واحدة، واحدة منهما لمقعد كوته المرأة والثانية لمجموع المرشحين، لكني فوجئت بالشهامة المصرية تتجلى حيث أشفق علي رئيس اللجنة من الانتظار ريثما ينتهي من أمامي (الوحيد باللجنة ولا يوجد غيرنا) لذلك أعطاني استمارة كوته المرأة وطلب من الاختيار ووضعها في الصندوق المخصص ثم العودة مرة أخرى لاستلام الاستمارة الثانية والذهاب بها إلى الصندوق الآخر.
واستجبت لاقتراح رئيس اللجنة، لكني لم أكن شهما مثله كما توقع ولم أفرغ من اختيار النائبة التي أريد بالسرعة التي توقعها، فنهرني قائلا (أيه يا أستاذ موش عارف مين تختار؟) ونفيت ذلك على الفور مؤكدا (اختار من تعرف، لكني فقط كنت اقرأ بقية الأسماء)، فأبتسم قائلا (لا داعي وخلصنا)!.
وأخذت الاستمارة الثانية وذهبت لاختيار المرشح ووضعها في الصندوق المخصص، تأخرت ريثما اقرأ كل الأسماء، فهي كثيرة ويجب أن اقرأ الاسم واسم الشهرة حتى أتيقن من اختياري، وجاءني صوت رئيس اللجنة مرة أخرى (أيه يا أستاذ موش عارف فين الراجل بتاعك؟).
انتهيت مسرعا حتى لا يظن الرجل بي السوء، نعم أنا أعرف الرجل الذي تريدون (الراجل بتاعنا كلنا)، طلب مني رئيس اللجنة غمس أصبعي في سائل أمامه ونصحني أن يكون الأصبع الصغير وألا أضعه كاملا في السائل مجرد طرف الأصبع يكفي، المفروض أن هذا السائل علامة على أني أدليت بصوتي ولا يجوز لي تكرار ذلك، تذكرت وقتها أن أعضاء اللجنة لم يطلبوا مني ما يثبت أنني لم أدل بصوتي من قبل، لم يشاهدوا أصابعي حتى يتأكدوا من أن أحداها ليس مغموسا في السائل!!، فهل سيفعلون ذلك ويتحققون مع من سيأتي بعدي؟ لا أظن، فأنت في مصر.
المهم،وبشكل سريع، لاحظت أنه تم وضع كل مرشحي الحزب الوطني في الجانب الأيمن من الاستمارة، ربما حتى يسهل على من لا يعرف أحد أن يختار من يجده مكتوبا أولا في الكشف، وربما من باب (إن في التيمن بركة)، لكن من المؤكد أن طريقة الكتابة مقصودة بدليل أن أول اسم في الاستمارة مرشح الحزب الحاكم رغم أن أسمه لا يبدأ بحرف الألف فترتيب نشر الأسماء لا يخضع لقاعدة الترتيب الأبجدي المعمول بها في أي مكان، ولكن من المؤكد أن خبراء الحزب الحاكم قد أوصوا بذلك على اعتبار أن الجانب الأيمن هو أول ما تقع عين الناخب عليه عند النظر للاستمارة، كما أن طريقة وضع صندوق الانتخاب تتيح لرئيس اللجنة معرفة من أي جانب اختار الناخب مرشحه وليس مهما معرفة الاسم بالتحديد.
أما عن سبب عدم تسرعي في اختيار المرشح فيرجع لكوني لا أعرف كل المرشحين، بل ربما لا أعرف إلا مرشح الحزب الحاكم لكثرة ما قرأت من لافتات تأييد له ولاصطدامي بصورته في كل مكان، ولأنه عضو فعال في الحكومة الحالية، لكن المؤكد أن خدماته لا تصل بشكل مباشر إلى جماهير الناخبين لذلك كنت أتساءل (ماذا سيفعل لي هذا الوزير عندما يصبح نائبا عن دائرتي الانتخابية؟).
ويقودني هذا التساؤل، مثل غيري من الناخبين، إلى تحديد الأسس التي عليها أختار المرشح، أريد مثلا شارعا نظيفا خاليا من القاذورات وهذا غير مؤمن حاليا خصوصا بعدما أصبحت مدينة نصر تتنافس عالميا على لقب أقذر مدينة في العالم، فهل سيستطيع مرشح مجلس الشعب تحقيق هذا الحلم؟، أريد أيضا مكانا تقف فيه سيارتي بعدما أصبحت شوارع المنطقة غابة من السيارات لدرجة أني أتساءل ألا يخرج أصحابها لأعمالهم؟، أريد حلا لمشاكل الزحام المروري وأن أصل لمقر عملي بمنطقة الدقي في معدل الوقت الطبيعي (حاليا يتراوح الزمن من 45 دقيقة إلى ثلاث ساعات!!).
لن أتكلم عن توفير احتياجاتي وأسرتي بأسعار معقولة والعمل على الحد من الغلاء وجشع التجار، ولن أحلم بالحصول على حقوقي الدستورية والدفاع عن عدم سن تشريعات تحرمني منها أو تزيد من معاناتي كمواطن مصري، ولن أتجرأ وأفكر في مستقبل أولادي على أساس أنني مؤمن ويجب لكي يكتمل إيماني؛ وفقا للمفهوم الرسمي؛ ألا أفكر في الغد على اعتبار (أن الله لم يطلب مني أعمال العبادة ليوم الغد فلماذا أفكر أنا في مستقبلي ومستقبل أولادي ليوم الغد).
أنا ابن اليوم، أفكر فقط فيمن يؤمن لي متطلباتي اليومية والحياتية، فقط ليوم واحد، أرى فيه شارعا نظيفا وتقف سيارتي على بعد كيلو متر واحد من منزلي وأذهب لعملي في نصف ساعة فقط ولا يحتك بي البشر العصبيين وتبتسم زوجتي في وجهي ويتضاحك أطفالي معي قبل ذهابهم إلى النوم مبكرا بدلا من عبوس الجميع للضغوط التي يواجهونها سواء في مدارسهم أو عملهم.
هل أنا من الطماعين أم ما زلت قنوعا، لا أريد الكثير من نواب البرلمان ولا من حكومة البرلمان، أريد فقط أن أعيش اليوم في سلام. يا رب حقق أمنيتي وأمنيات المصريين.