السبت، 27 فبراير 2010

الأب الروحي


هل تعرفون صاحب "الحق المر"؟، إنه الأب الروحي لكل أبناء جيلي من المسلمين؛ إنه الشيخ محمد الغزالي رحمة الله والذي ولد عام 1917 وتوفي عام 1996 وهو يجاهد في سبيل نصره الإسلام المعتدل، توفي بمدينة الرياض في المملكة العربية السعودية ودفن في أطهر بقاع الأرض بمنطقة البقيع في المدينة المنورة مع الصحابة والشهداء.
عرفت الشيخ محمد الغزالي قبل أن ألقاه؛ من خلال مقالات الحق المر التي كان يكتبها بمداد قلبه ولا يخشي فيما يقول إلا الحق سبحانه وتعالي؛ فلما عملت بالصحابة تشرفت بلقائه أكثر من مرة حتى صرت ضيفا مستديما في بيته وعلى صلة بأفراد أسرته.
كنت أسعى لمحاورته لا لكي أنفرد بحوار معه تنشره صفحات الجرائد، بل قبل ذلك وبعده، لكي استزيد من علمه وأتعلم من فقهه، كنت أنصت إليه لأتعلم كيف أتكلم، وأنظر إليه ليمتلئ وجداني بنور إيمانه، فقد كان يرحمه الله من هؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وأغفر لنا إنك على كل شيء قدير).
كما كنت من أكثر المعجبين بآرائه حين يتكلم عن الأخلاق وبالأخص حين يمزج ما يقول بنظرته إلى أسلوب الحكم وأخلاق الساسة والحكام.
كان يقول إن "الحكم تعاون على طاعة الله وإسلام الوجوه إليه والتزام حدوده ووصاياه ,لا ولاء هناك لشيء آخر ولا تجمع إلا في هذا الاتجاه, فإذا ارتد عنه ,أحد انقطع حبله بالجماعة، والحاكم عندنا باسم الله يأمر وينهى لا بأي اسم آخر".
وحين تحدث عن نظام الديمقراطية في عصرنا قال إن "له لجان وأجنحة وشعب كثيرة ,وخلاصته النقية المحترمة ضمان بقاء الشورى وتقليم أظافر الفرد المستبد، وقد لمسنا هذه الخلاصة في الشورى الإسلامية الأولى مع مظهرها الساذج وأدواتها البدائية، وقد أحكم الغربيون الحراسة على صور الديمقراطية التي اختاروها لأنفسهم، أحكموا الحراسة عليها فعلا وكان ينبغي أن نمزج بين مبادئ الشورى عندنا وبين ما استوردناه من آخر التجارب الأوربية فهل فعلنا؟
الذي حدث أن الهيكل المادي أقيم بدقه أما الروح اليقظان الواعي فانه لم ينقل لا من مواريثنا القديمة ولا من تجارب العالم الحديث, ومن هنا وقعت غرائب في عالم الدساتير وعالم القضاء.
وفي واحدة من مقالاته ربط بين أخلاق المسلمين والملكية العامة، فقال "ما أشد حب الناس للمال ,وما أحرصهم على جمعه, وما أسرعهم للاستيلاء عليه, لاسيما إذا كان مالا عاما أي ملكا للدولة، عندما فتحت فارس وسقط ملك الأكاسرة أرسل القائد الفاتح نفائس الإيوان إلى المدينة المنورة كانت أكواما من الذهب والجواهر في حقائب بعضها فوق بعض حملت من المدائن إلى دار الخلافة لم تنقص ذرة خلال آلاف الأميال، قال ابن جرير:
لما قدم بسيف كسرى ومنطقته مع بقية الكنوز قال عمر إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة فقال له على ابن أبى طال )انك عففت فعفت الرعية).
وكان أكثر ما يعجبني من الشيخ عدم انغلاقه ومزجه بين صحيح الدين وجوهرة وروح العصر الذي نعيش فيه، كان يعتبر أن عظمة الأمم قبل أن تكمن في أجهزتها التشريعية والتنفيذية تكمن في قدراتها النفسية والخلقية وما ينتجه الإيمان من مواهب وملكات، ونحن في العالم الإسلامي الكبير نحتاج إلى الأمرين كليهما ولا بأس علينا ونحن نعالج تخلفنا الإداري والحضاري أن نقتبس من كل تجارب الأرض شرقا وغربا لكن ذلك لا يغنى كثيرا عن الأحوال النفسية المصاحبة أي عن الإيمان والخلق, وكل صرح يرتفع خاليا من هذين العنصرين فهو صرح من ورق لا ينتظر المدافع لدكه بل سينهار مع هبوب الرياح.
وفى عصرنا الحديث تقاربت البلاد وتعارف الناس وتكشفت الأمم بمحامدها ومعايبها فماذا يرى العالم منا نحن المسلمون؟
هل يسير في أقطارنا سائح ويدرس أحوالنا ثم يعود إلى أرضه ليتحدث عن صدق الكلمة والوعد وعن رعاية الأمانة والعهد وعن شرف الخصومة بين الأفراد والجماعات؟
المؤسف أن عناصر النفاق تجد لها مرتعا خصيبا بيننا، ما ارخص الكلمة وما أضيع الأمانة وما أيسر اللعب بالعهود والعقود أما الفجور في الخصومة فأمر لا يعرف له حد, وتفسير هذه المحنة سهل, كيف تفسرها؟
يقول الله تعالى:
لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .
الأمر الفرط هو السائب وعندما يكون الكلام سائبا والسلوك سائبا والتحرك غير ملتزم بغاية مرسومة ولا بخط محدد بل هو كترنح السكران, فمعنى هذا أن الأمة قد انفرط عقدها وتناثرت حباتها، ومما تنشأ هذه الفوضى؟ من إتباع الهوى وعيش كل امرئ داخل مآربه الخاصة مما ينشئ هذا الهوى المطاع وتلك الأنانية الغالبة ؟
وأمتنا الإسلامية تناست رسالتها العظمى في الداخل والخارج وأخلدت إلى الأرض وهبطت دون مستواها, والغريب أنها لما فقدت قوتها الخاصة والتحقت بالحضارات الغالبة شيوعية كانت أو رأس مالية التقطت من هذه الحضارات ما يوافق نسيانها لله, فكان إقبالها على الدنايا أشد غراما من غيرها, وقد تسبق هؤلاء وأولئك في الإسفاف والغفلة.
ويستحيل أن تصح لنا نهضة أو تسلم لنا عودة أو صحوة إلا ببناء أخلاقي متماسك صلب تشد العقيدة أوصاله وتشيع فيه فضائل الصدق والأمانة والوفاء والشرف أما أن ندعى الإسلام و أركان النفاق سامقة في مجتمعنا فأمر مستنكر مستكره، إن النظام الأخلاقي وراء كل عمل مثمر ونجاح معجب.
وعصر الآلات التي نعيش فيه يحسب الأعمال بالذرة وبالمليمتر ولا مكان فيه للتسيب المنفلت الذي يعرف الآن بين المسلمين ويعشش في سلوكهم .
رحم الله شيخنا محمد الغزالي الذي توفي مدافعا عن "الحق المر"، واستأذنه في أن أجعل من تلك الكلمات عنوانا لمدونتي فقد كان كما قلت "الأب الروحي" لكل من قرأ مقالاته واستمع لمحاضراته فما بالكم بمن صلى خلفه وأنصت إليه وأعجبه دستوره في الحياة المبني على الأخلاق المستوحاة من القرآن وأخلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.